دفاعًا عن الجنون، لما سيدافع أحدهم عن الجنون؟
دفاعًا عن الجنون، كتاب للكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان. يظن المرء في الوهلة الأولى أن الكتاب عبارة عن مقدمات مقتضبة تتناول أفكارًا لا علاقة لها بالأخرى، وبين صفحةٍ وأختها، وعبارةٍ وأمها يتفاجأ المرء إذ يجد نفسه أمام فيلسوفٍ عظيم، كاتبٍ عبقري، وإنسان بحق. يحتوي الكتاب على عدة فصول فُهرست كالآتي: احتفالاً بالجنون، بين الشعر والقراء، لا بدّ من الشعر، الجنس شعرًا، وهذا أنا أيضًا، اعتراف، ويختم كتابه بفصل النمور تتعلم الرسم. ولك أيها القارئ أن تتخيل، الرابط بين كل هذه المواضيع. أن بأيدينا كتاب يختصر الكثير في كلماتٍ قليلة، ولعل في دفاع ممدوح عن الجنون، دفعنا للبحث عن شرف الانسان، حقيقته، وما تبقى من إنسانيتنا الضائعة منذ هبط آدم من فردوسه.
يفتتح ممدوح كتابه بذكر الفنان السوري لؤي كيالي، مجسدًا به صدمة الانسان الأولى بواقعة النتن. إن ردة فعل لؤي حيال هذا العالم طبيعية، طبيعية للغاية، ولربما كان يجدر بنا الخوف من أولئك الذين لا يجنون كردة فعلٍ اولى وأخيرة حيال هذا الواقع المدمر، فقد كان لؤي في ذروة جنونه، مثالاً على الانسان الحق.
وينتقل عدوان بعد الانسان الحق إلى موضوعه الاخر: بين الشعر والقراء.
"خير ما تكتبه هو ذلك الذي تكتبه وكأن أحدًا لن يقرأك، ذاك الذي تكتبه باطمئنان وكأنك تعترف، كأنك تتعرى." وهذا هو الكاتب الحق. إن من يكتب للجماهير، لما يقدر الجماهير مضغه ثم، بسهولةٍ هضمه، كاتبٌ مزيف، كاتبٌ فاشل نُحت فشله على نجوم المجرة كلها. "مجرد احساسك بهم، لحظة الكتابة، احساسك بتوقع شخص ما تعرف أنه يترقبك – وليس بالضرورة يراقبك – يجعلك تتعثر، وتتلعثم، وتفأفئ." إن من يكتب للآخرين ليس بكاتبٍ حق، فليبحث إذن عن مسمى يليق بما يقدم لرضى الجموع واستحسانهم، وحده المهرج من يبحث عن استحسان الجماهير، وحده المهرج من يعيش على ضحكاتهم، رضاهم، وتصفيقهم.
يكمل ممدوح قائلاً: ليست وظيفة الشاعر أن يكتب المرثيات، أو يغزل أغنيات المدح والتمجيد، وظيفة الشاعر بسيطة وهي أن "يدافع عن إنسانية الانسان في هذا العالم." إن رغبة الشاعر هي رغبة الإنسان في أن يوجد، في أن يصرخ حقيقته، في أن "يكون" أو "لا يكون." أنها، وكما كتب عدوان "الرغبة التي جعلت أرخميدس يصرخ – رغم أنه كان وحيدًا – (وجدتها!)"
بعد ذلك نجد أنفسنا في مواجهة مع فصلٍ جديد، نجد أنفسنا امام الشاعر الحق، والمستفيد. "لا بدّ من الشعر" ولكن – وفي خضم هذه الفوضى – من ذا الذي لديه الوقت للشعر؟ إن كل حي، كل زهرةٍ وقطٍ وطفلٍ وشجرةٍ تحتاج للشعر. إن حاجتنا للشعر كحاجتنا للماء، فالشعر الحقيقي يحيي الإنسان رغم نبضه، يرفعه إلى وعيٍ أفضل، يقوده لعالمٍ تسوده الحقيقة. الشعر كما يقول عدوان يناولنا هذا الشيء الذي نسيناه أو تناسيناه أو تعودنا إهماله "الشعر يناولك نفسك." وأريدك عزيزي القارئ أن تنظر لكل هذه القصائد التافهة من حولك، والتي لا تحرك بك شيئًا، بل تغطيك بلحافٍ دافئ وتقول لك أخلد للنوم أيها الطفل الكبير!
أن الشعر ينقسم لقسمين لا ثالث لهما: شعرٌ يحيي، وآخر يميت. ولا نقصد هنا الحياة والموت بمفهومها البيولوجي، بل نقصد موت البصيرة لا البصر، موت الفكرِ لا العقل. ولكل فريقٍ جُنده، وفريقٌ واحد من الأثنين هو من يحظى بالغنائم.
الجنس شعرًا، هذا فصلنا التالي، وأنت مدعو إلى امرأة. سيفهم من في نفسه مرضٌ هذا الفصل فهمًا خاطئًا، ولكن لا بأس، فالعديدون لا يزالون في حالة الوحش الأولى، الحالة الحيوانية الأولى. يقتبس عدوان من ملحمة جلجامش ما يختصر الكثير والكثير من الكلمات "ورأته ذلك الرجل المتوحش يأتي من التلال البعيدة، لم تستح هي منه، تعرت ورحبت بشوقه، أغرت المتوحش على أن يحبها وعلمته فن المرأة، ولكنه عندما شبع رجع إلى الوحوش البرية، عندئذ انطلقت الغزلان هاربة حالما رأته. وفرت المخلوقات البرية عندما رأته – كان أنكيدو يريد أن يتبعها، لكن جسده كان مقيدًا كمن أوثق بحبال، والآن قالت المرأة لأنكيدو: عندما أنظر إليك أراك تبدو كإله، لماذا تتوق لأن تهيم على وجهك ثانية مع الوحوش في التلال؟! مزقت ثوبها نصفين، بنصف كسته وبالنصف الآخر اكتست، وقادته من يده كأم، ثم قالت المرأة: أي أنكيدو، كل الخبز إنه مادة الحياة. وهكذا صنعت المرأة من أنكيدو إنسانًا." إن كثير من الرجال ما زالوا في حالة إنكيدو الأولى، حالة الوحش الهائم على وجهه مع الوحوش، حالة الحيوان البري، حالة من لم تكتمل أنسنتة.
وهذا أنا أيضًا... وهذا أنا أيضًا. هذا عنوان فصلنا التالي. وهذا أنا أيضًا. إن الانسان مخلوق لا يمكن تجزئته، ولا يمكن تصنيفه في تصنيف واحدٍ لمدى العمر، إن الانسان حالة كيميائية لانهائية من التشكل والتغير وإضافة التصنيفات ومن ثم التخلي عنها لإضافة تصنيفات جديدة، أو حتى العودة لتصنيفات سبقت هذه المستبدلة. كل ما في هذه الأرض يتغير، حتى الجيف تتغير، فلما يخيب ظنهم حينما تتغير أنت أيها الحي؟ يتحدث عدوان في هذا الفصل عن اعتياد الجماهير، أو حتى اعتياد من حولك على نسخةٍ واحدة منك، لا يرغبون التعامل مع غيرها، ولا يرغبون بك إلا لو كنتها. لكننا مزيجٌ من أشياء عدة، أمزجة عدة، أحلام عدة. وعلينا ألّا نعتاد، وألّا نطالب الآخرين، شعراء كانوا أو أيًا كان من كانوا، أن يكونوا نسخةً واحدة، شكلًا واحدًا، قصيدة مكرره، قافية مكرره، بحرًا مكرر. وعلينا أن نتقبلهم حين نرى شيئًا لم نعتده، حين نسمع شيئًا لم نعتده، وعوضًا عن قول "خيبت ظنونا" يجب أن نتعلم عبارات أخرى، كـ هذا أنت أيضًا.
في الفصل قبل الأخير، يعترف لنا عدوان اعترافات عدة. وفي هذه الاعترافات مختصر تاريخ الكيان الصهيوني كاملاً، والهزيمة العربية، والعقلية الغربية، وحماقة البشر. أكتب هذه النشرة في اليوم العاشر من شهر مايو لعام 2024، ويؤسفني القول إن الحال هو الحال. لا تزال المجازر قائمة، والإبادة مستمرة. والعالم كما قال عدوان "صاخب بالدعايات ومزدحم بمآسي الشعوب ومتخم باللامبالاة." نحن نعيش في الجحيم، ولعل جحيم هذا الجحيم، هو الوطن العربي.
يختم ممدوح عدوان كتابه "دفاعًا عن الجنون" بفصل عنونه "النمور تتعلم الرسم" ويقتبس قائلاً "ليس للعدالة تاريخ." فكل القيم التاريخية المتوارثة لليوم "قيم تؤكد التدني الخلقي والنفسي والإبداعي للمرأة والأسود والفلاح والفقير عمومًا." وإن الأمر ليتطلب شجاعة قصوى وقوة كبرى ليعترف الرجال وغير السود والاغنياء بذلك. ولعلنا سنموت قبل أن نشهد هذا الاعتراف، ولعله لن يأتي أبدًأ. ولكن، وكما ختم عدوان كتابه أقتبس لأختم نشرتنا هذه "لا شك أن اللوحات التي ستقدمها النمور ستغير الكثير ليس من موضوعات الفن بل من مقاييسه. فالرسم بالمخالب يختلف عن الرسم بالفرشاة الناعمة. الرسم بالفرشاة مقولة فنية طرحها الصيادون وليس النمور ملزمين بها أو بالقيم الناجمة عنها."
مها الفهيدي-
آراء أعضاء نادي ميراكي بكتاب دفاعًا عن الجنون:
كُل ماهو مُدنَّس بوحل الوهم ومرتدي رداء الزيف يفقد أصالته، والفن خُلِق أصيل، إنه بطبيعته نابذ ومتجرد من كُل سطحية تمسّه، قد يفقد المرء إتزانه حد وصوله الجنون لو لم يتخّذ من الفن منفه لكل مايعكر صفو هذا العقل وهذه الروح، إن الإنسان بطبيعته يلجأ لكل السبل باحثًا عن مايفرّغ به كُل ماملئ روحه، توجد لذلك طرق عدّ لفعل هذا..وأن أعلاها مكانة وأسماها منزلة هو "الفن".. بكل أشكاله دون قولبة سواءًا كان لوحات فنية تُعلق على جدران المنازل او أوراق ملأها الحبر بالأشعار والنصوص النثريّة أو غيره من أنواع الفن..
إن المشاعر جميعها وأن كانت مُحببة مخالجتها لروح المرء، والمناظر جميعها التي تستسيغها العين أم لا، فالتعبير عنها يدل على الأصالة، و الأصل في الإنسانية، لا يتخلّد إلا ماهو أصيل، ولهذا يبقى الفن خالدًا.
أريام الشمري-
تعليقات
إرسال تعليق